### **نجاة فالو بلقاسم: عندما يتجاوز خيال الحياة حدود الهوية والسياسة**
في المشهد الأدبي والفكري الفرنسي المعاصر،
نادرًا ما يظهر عمل يجمع بين السرد الذاتي الحميم، والتأريخ الاجتماعي الدقيق،
والسجال السياسي الحاد، بالعمق الذي يقدمه كتاب "للحياة خيال أوسع" (La
vie a plus d'imagination que toi) للسياسية الفرنسية من
أصول مغربية، نجاة فالو بلقاسم.
![]() |
### **نجاة فالو بلقاسم: عندما يتجاوز خيال الحياة حدود الهوية والسياسة** |
- لا يمثل هذا الكتاب مجرد مذكرات لوزيرة سابقة، بل هو وثيقة استثنائية ترسم مسارًا إنسانيًا وفكريًا
- من قرية نائية في ريف المغرب إلى قمة هرم السلطة في الجمهورية الفرنسية، كاشفًا في طريقه
- عن التصدعات العميقة في الوعد الجمهوري بالاندماج والمساواة، ومقدّمًا تأملًا مريرًا في طبيعة
- الممارسة السياسية في عصر الشعبوية وطغيان الإعلام.
#### **من رحم الريف إلى قلب الجمهورية قطيعة التأسيس**
ينطلق الكتاب من لحظة وجودية فارقة: الطفولة المبكرة في قرية "بني شيكر" بمنطقة الريف. لا تستدعي بلقاسم هذه الفترة بنوستالجيا رومانسية، بل بواقعية حادة ترصد فيها ملامح عالم بدائي، قاسٍ وساحر في آن. عالمٌ تحكمه شمس حارقة
- ومراعٍ مقفرة، وبئر ماء هو شريان الحياة، وكلمات أمازيغية تحمل معاني بسيطة وعميقة. هذه
- الجذور ليست مجرد خلفية درامية، بل هي النقطة المرجعية التي ستقيس عليها الساردة كل تحولاتها
- اللاحقة. ولادتها عام 1977 في هذا المحيط، ثم رحيلها في سن الخامسة عام 1982، لم يكن مجرد
- انتقال جغرافي، بل
كان قطيعة وجودية شاملة.
تصف بلقاسم رحلة الهجرة البحرية إلى مرسيليا، في إطار سياسة التجمع العائلي، كلحظة طمر للماضي في قاع المتوسط.
- كانت هذه الرحلة بمثابة عبور من عالم عضوي، فطري، إلى آخر صناعي، منظم، وضوضائي.
- "ستجرف الفرنسية الأسماء كلها"، كما تكتب، في إشارة بليغة إلى أن أول ما يفقده المهاجر ليس فقط
- مكانه، بل لغته، وبالتالي رؤيته للعالم. لقد مثّل هذا الانتقال الصدمة القاعدية الأولى التي شكّلت
- وعيها، وزرعت فيها بذرة القدرة على التكيف، وهي المهارة التي ستصبح لاحقًا أعظم أسلحتها في
- معاركها السياسية.
إن العودة المتأخرة إلى بني شيكر، كما تروي، لم
تكن عودة إلى الوطن، بل زيارة لمتحف شخصي يتلاشى. اكتشافها أن قريتها لم تعد
تدهشها، وأن كل ما كانت تنتظره هو العودة إلى فرنسا، يكشف عن عمق الانزياح الذي
حدث في هويتها. لقد أصبح "الهناك" غريبًا، بينما "الهنا"، بكل
تعقيداته وتحدياته، هو الواقع الذي لا مفر منه.
#### **هندسة الذات الجديدة القراءة وطنًا محمولًا**
في مدن الهامش الفرنسي مثل "أبوفيل" و"أميين"، واجهت الطفلة نجاة تحديًا مزدوجًا: التحدي اللغوي والثقافي، والتحدي الاجتماعي المتمثل في العنصرية الكامنة. لم تكن الصدمة في اختلاف أسلوب الحياة فحسب، بل في الوجود الاسمي ذاته.
- اسم "نجاة" في محيط من "ماري" و"أوليفيي" كان علامة دائمة على الاختلاف، ووسمًا يضعها في
- خانة "الآخر". وهنا تتجلى عبقرية السرد في ربط هذا التحدي الشخصي بالتحولات السياسية الأوسع
- في فرنسا،
حيث بدأ اليمين المتطرف يستثمر في هذه "الاختلافات" لتحقيق مكاسب سياسية.
أمام هذه الجدران، وجدت بلقاسم ملجأها الأوحد والأقوى: القراءة. يتحول الكتاب في هذه الفصول إلى احتفاء مؤثر بقوة الأدب والفكر. لم تكن القراءة مجرد هواية أو وسيلة للتعلم، بل كانت، كما تصفها، "وطنًا خياليًا" متنقلًا.
- في صفحات الكتب، وجدت حيوات أخرى، وأفكارًا تتجاوز ضيق الواقع، ولغة تمنحها القوة للتعبير
- عن ذاتها والدفاع عن وجودها. "القراءة تنقذ... هي النسيان، هي الصحوة، هي التعلم، هي التغيير".
- هذه العبارة ليست مجرد شعار، بل هي جوهر استراتيجيتها للبقاء والارتقاء. لقد كانت الكتب هي التي
- بنت الجسر بين عالمها الداخلي المهمش والفرص التي تتيحها الجمهورية الفرنسية.
هذا
الشغف المعرفي هو الذي قادها مباشرة إلى أرقى معاقل النخبة الفرنسية، معهد
الدراسات السياسية في باريس (Science Po)، محققة قفزة اجتماعية لم يكن من الممكن
تخيلها.
#### **الصعود السياسي ومفارقاته وجه الجمهورية الجديد**
لم يكن التحاقها بمعهد الدراسات السياسية مجرد
إنجاز أكاديمي، بل كان بوابة الدخول إلى عالم السياسة، الذي رأته الأداة المثلى
لترجمة قناعاتها بالعدالة والمساواة إلى واقع ملموس. بدأت مسيرتها في العمل المحلي
بمدينة ليون، تحت إشراف جيرار كولومب، حيث تعلمت أبجديات السياسة من قاعدتها. سرعان
ما التقطها الحزب الاشتراكي، الذي كان يبحث عن وجوه جديدة تجسد التنوع وتستطيع
مخاطبة شرائح انتخابية مهمشة، خاصة من أصول مهاجرة.
- هنا، تتناول السيرة الذاتية بذكاء إشكالية "سياسات الهوية". كانت بلقاسم تدرك أنها تمثل قصة نجاح
- تحتاجها فرنسا، ووجهًا جذابًا يحتاجه حزبها. لكنها كانت تدرك أيضًا عبء هذا التمثيل. فنجاحها لم
- يكن يُقرأ دائمًا كإنجاز فردي، بل كاستثناء يؤكد القاعدة، أو كأداة سياسية في يد الآخرين. وقد تجلى
- هذا التوتر بوضوح خلال حملة سيغولين رويال الرئاسية عام 2007، حين اختيرت ناطقة باسمها، ثم
- بشكل أكبر بعد فوز فرنسوا هولاند عام 2012 وتعيينها في مناصب
وزارية متعاقبة.
وصولها إلى منصب وزيرة التربية الوطنية والتعليم العالي (2014-2017)، كأول امرأة في تاريخ فرنسا تتقلده، كان ذروة مسارها السياسي، ولكنه كان أيضًا بداية المعركة الأشرس. لقد أصبحت رمزًا لتحدي فرنسا التقليدية.
- إصلاحاتها التعليمية، التي هدفت إلى تعزيز المساواة والحد من الفوارق الاجتماعية، قوبلت بمقاومة
- عنيفة من اليمين، ومن الإعلام المحافظ، ومن قطاعات واسعة من المجتمع رأت فيها تهديدًا "للهوية
- الفرنسية". لم تكن المعارضة سياسية فحسب، بل كانت شخصية، وعنيفة، وموجعة، كشفت عن
- السقف الزجاجي الذي لا يزال يواجه الفرنسيين من أصول مهاجرة، حتى عندما يصلون إلى أعلى
- المناصب.
#### **مرثية للسياسة في عصر المشهدية**
يصل الكتاب إلى ذروته النقدية عند تحليل مآل
الممارسة السياسية. تتحول السيرة إلى رثاء حقيقي للسياسة كفعل نبيل قائم على
الأفكار والبرامج. تصف بلقاسم كيف تحولت الساحة العامة إلى مسرح تهيمن عليه "المشهدية
التواصلية والإعلامية". أصبحت السياسة، في نظرها، محكومة بمنطق الصورة،
والتصريح الصادم، والجدل العقيم. "مطحنة الصحافة"، كما تسميها، لا تكتفي
بنقل الأخبار، بل تصنع الرأي العام، وتشكّل الصور النمطية، وتحوّل النقاش العام
إلى محاكمة مستمرة للمسؤولين.
- إن المقطع الذي تصف فيه علاقة الفرنسيين المتناقضة بالساسة — "يعتقدون أننا عديمو الفائدة، وفي
- الوقت نفسه يحمّلوننا مسؤولية كل شيء" — هو تشخيص دقيق لأزمة الثقة التي تعصف
- بالديمقراطيات الغربية. في هذا المناخ، يصبح من المستحيل تقريبًا تنفيذ إصلاحات عميقة، لأن كل
- خطوة تُقابل بالتشكيك والاتهام، وتُختزل في إطار صراعات هوياتية وشعبوية. هزيمتها في
- الانتخابات التشريعية عام 2017 لم تكن مجرد خسارة سياسية، بل كانت تأكيدًا على أن هذا المناخ
- السام قد أصبح أقوى من أي إرادة سياسية إصلاحية.
#### ** عبقرية الحياة في وجه الخيبة**
في نهاية المطاف، وعلى الرغم من النبرة القاتمة التي تهيمن على الفصول الأخيرة، يجد الكتاب خلاصه في العودة إلى الخاص، إلى العائلة. إذا كانت السياسة قد خيبت أملها، فإن الحياة، بخيالها الواسع، قد منحتها ما هو أثمن.
- الحديث عن والدتها الأمازيغية العصامية التي تعلمت الفرنسية في كبرها، وعن زوجها بوريس فالو
- الذي يجسد "فرنسا في روعتها وإنسانيتها"، وعن أبنائها الذين يمثلون التركيب الأسمى لهذه الرحلة
- المعقدة، يعيد للقصة بعدها
الإنساني العميق.
الختام
هؤلاء الأطفال، "أبناء طفلة مهاجرة، وأبناء صعود اجتماعي، وأبناء وزيرة، وأبناء فرنسا"، هم التجسيد الحي لعنوان الكتاب. إنهم الدليل على أن الحياة، في نهاية المطاف، قادرة على خلق تركيبات وهويات تتجاوز أبسط التصورات.
إن سيرة نجاة فالو بلقاسم ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي شهادة جيل،
ومرآة تعكس أمجاد الديمقراطية الفرنسية وتناقضاتها، وتأكيد على أن الخيال الأوسع
ليس في السياسة، بل في القدرة الإنسانية على إعادة بناء الذات وتجاوز كل الحدود.